حمدي أبو جليل
حمدي أبو جليل


مريم الساعدى تكتب : «ماشى يا مريم ..ياللا مع السلامة»

أخبار الأدب

الجمعة، 23 يونيو 2023 - 02:42 م

من أصعب المواقف فى الحياة أن تستيقظ فى يوم على خبر موت صديق ، كنت أستعد لارتشاف فنجان قهوتى الأول لذلك اليوم، تأخرت فى النوم .. أو تركت نفسى أتأخر، شعور مقبض غمرنى فى الأيام السابقة لم أعرف له تفسيرًا.. قلت ربما أحتاج الخروج من العالم والناس ، أفعل ذلك من فترة لأخرى فأعتزل كل شيء .. ولكن فى كل مرة احتجت فيها الانعزال عن العالم لم أكن أفكر فى الانعزال عن حمدي، صحيح أننا لم نتحدث كثيرًا فى الفترة الأخيرة إلا أنه كان الوحيد الذى أستطيع محادثته فى أى حالة نفسية، ربما لأنه يصغى جيدًا وأنا أتدفق فى سرد أمواج روحى الصاعدة والهابطة مع تقلبات الأيام، وليس بالضرورة أن يعلّق على ما أقول، أحيان كثيرة كان يكتفى بإصدار أصوات الهمهمة والنحنحة أو الإمممممم إشارة إلى التدبر، ثم وفى اللحظة المناسبة بالضبط كان سيقول عبارة ستكون هى كل ما احتجت سماعه فى ذلك اليوم ، حمدى لم يكن صديقًا عابرًا، كان صديق الأيام، والسنين والحالات النفسية والتقلبات المزاجية. كان يبهجنى الحديث معه، وكانت لديه دومًا زاوية رؤية مريحة لأى موضوع صعب أو شائك، و ظننت أنه سيبقى دومًا هناك موجودًا لى ساعة أحتاجه، صامد برغم كل الصعاب والتعب، ولم يكن يعّبر عن أى تعب، كان دومًا يضحك، وكنا نضحك كثيرًا كلما التقينا، وإن مرة واحدة فى السنه أثناء زيارتى السنوية للقاهرة. أنا لا أفهم الآن أين سيذهب كل ذلك الضحك! 

ألتقيه ليوم واحد فى الرحلة نتحدث مطوًلا فى كل شيء، وأستمع لآرائه الكثيرة فى الحياة والموت والمشهد الثقافى وأحاول كثيرًا أن أثنيه عن مواصلة مواجهاته العبثية مع الفكر السائد، أقول له دع عنك كل هذا الهراء يا أخى واكتب، الأدب سيغير كل شيء أكثر من المواجهات المباشرة التى تضيع الوقت والجهد وتهدر الموهبة، يضحك كالعادة ويتمتم بأصوات تنمّ عن تفهم ولكن عن عدم تأييد، يغيظنى فيقول «طب ما تقولى الكلام ده لنفسك وتكتبي.. أكتبى يا مريم .. الكتابة هتحررك..» ونتناقش مطوّلًا حول هذه الفكرة؛ الكتابة والإحباط والاكتئاب والأمزجة والتأجيل والمجتمع والحرية … ثم الكثير من لحظات الصمت ثم الأصوات .. فأقول له «ها وماذا تعنى كل هذه الأصوات الآن ؟!» ويضحك ضحكته الشهيرة التى تقول أنه رأى وعرف كل الحكاية ولم يعد يهمه أى شيء يقول لى « تعرفى يا مريم إنتى الوحيدة اللى مش بتقوليلى يا أستاذ حمدي، هو إنتى مش بتأستذينى ليه؟ أنا مفروس منك بصراحة ؟ « أجيبه بلا مبالاة» يا شيخ اتلهى .. الأستذة مش بالألقاب كفاية قاعده بضيع وقتى معاك أهو « ويضحك بجلجلة.

اقرأ ايضاً| محمد بدوى يكتب : رواية مختلفة عن موضوع تقليدى

أستطيع مع حمدى أن أكون فى منتهى الوقاحه دون أن يرى فى ذلك سوى رقة متناهية لم يغضب منها يومًا. وكان هذا يريحنى من التعامل مع النفسيات الحساسة التى على المرء أن يحاسب على كل كلمة يقولها حتى لا ينفجروا بالغضب أو يكبتوا الأحقاد ، حمدى لم يعرف الحقد حتى على من كان يسيء إليه. وكنت أريده أن يعود ليكتب شيئًا كروايته البديعة «الفاعل» وقد قرأتها قبل أن أتعرف عليه قبل أكثر من خمسة عشر سنة، لم أكن أظن أن كل هذا العمر يمكن أن يمضى هكذا كأنه لم يكن. تجادلنا كثيرًا حول اختياره اللهجة العامية لكتابة روايته «الصاد شين» أخبرته أنه ظلم الرواية وأن الفصحى كانت ستجعلها مقروءة أكثر ؛ تشبث بانتصاره للعامية وتشبثت بتفضيلى للفصحى.

قال لى انتى يا مريم بالذات المفروض بتعرفى اللهجة المصرية كويس والقراءة هتكون سهله ليكي» قلت لا « أنا كده هحس إنى بتفرج على مسلسل مش بقرا روايه « ثم حين ترجمت للانجليزية قلت له حسنا الآن يمكن أن يقرأها العرب. عرفته لأول مرة من نصّ قرأته له عن إبراهيم أصلان فى موقع مجلة كيكا التى يديرها الكاتب العراقى صموئيل شمعون. وفى كيكا تعرفت على أجمل الأقلام العربية. فى النص الذى كتبه حمدى كانت الصورة المرفقة له مع سيارة قديمة مهترئة يقف أمهامها فخورا مبتسمًا مثل طفل تحصل للتو على لعبة جديدة. أضحكتنى الصورة ولمستنى الكتابة فى قلبي. قلمه الصادق كان مؤثرًا؛ دمعت كثيرًا فى مواضع وضحكت كثيرًا فى مواضع أخرى، كانت كتابته فى منتهى الإنسانية، وقلت هذا إنسان أريد أن أعرفه، أحتاج أن يكون موجودًا فى حياتي. وأرسلت له أقول ذلك، ورد مباشرة بكل أريحية وبهجة وفرح وتوالت الرسائل المليئة بالضحك والأفكار والأبعاد الإنسانية. 

«البقية فى حياتك يا مريم» رسالة وصلتنى من صديق على الواتساب؛ لم أفهم معناها وفيمن يعزيني! أعدت تفعيل حساب الفيسبوك الذى كنت قد أغلقته الليلة السابقة استعدًادا للعزلة، فإذا بصور حمدى أبو جليل تصدمنى مع عبارات العزاء… حتمًا كان سيكون منتشيًا لو رأى صوره تملأ الفيسبوك..

«يخرب بيتك يا حمدى بوّظت على خطة عزلتى … ما كنت تستنى شوية أخلص عزلة و اكتئبلى شوية أجدد فيهم حيويتى .. مش وقت حزن على فقدك دلوقت» وجدتنى أحدث نفسى . ثم جلست بصمت.. لا أعرف كم مضى من الوقت.. ربما ساعة او أثنتين، قمت أعد فنجان قهوة ثان وقد قررت ألا أصدق هذا الخبر. لن أصدقه، لم يحدث. حمدى هناك يصارع طواحين الهواء كالعادة ويخطط لكتابة رواية حياته كما كان يسميها. سأتصل به لاحقًا .. ليس اليوم. 

ثم وجدتنى أفتش فى ألبوم الصور عن صورة وحيدة جمعتنا. « تعرف إننا عمرنا ما اتصورنا مع بعض» ..قلت له فى آخر زيارة التقينا فيها ونحن نرتشف القهوة فى باحة فندق الماريوت بالزمالك. « ما انتى مش معترفة إنى كاتب عالمى أعملك ايه ..» يقول ضاحكًا .. « لا هو أنت اللى مش بتسكت وتنسينى الصورة.. استنى ننده ع الجرسون يصورنا وألمعك يمكن تبقى عالمى بجد» ونضحك ونحن نلتقط الصورة الوحيدة التى جمعتنا والتى للأسف لم أجدها فى ألبوم الصور لسبب فنى أجهله.

« لم يحصل شيء… كل شيء بخير .. لم يمت أحد.. واليوم سأكمل عزلتى التى خططت لها للاسترخاء وأسمع الموسيقى وأشاهد فيلمًا خفيفًا …» قلت لنفسى بصوت عالٍ، وكأنى سمعت صوت حمدى يرد عليّ « همممم… ماشى يا مريم …ياللا مع السلامة»، وكأنه ينهى مكالمة عادية أخرى من مكالماتنا.

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة